•إنّ من تدبر القرآن الكريم حقًّ التدبر
حصًّل من المنافع والمصالح الدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله، ومن أعظمها: ماذكره
العلامة السعدي –رحمه الله- بقوله: " من فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل
العبد الى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً، وبوافق بعضه
بعضاً " [تفسير السعدي 198/1].
ولهذا لم ينتهي اخواننا من الجن اذ سمعوه
حتى قالو: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (*). يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا
بِهِ} [الجن: 1-2]، ومنهم من سمع القرآن { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا
قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } [ الأحقاف:29]، وماهذا إلا لشدة تأثرهم
النابع من التدبر والتفكر.
•وقد قال ابن القيم –رحمه الله- كلاماً
يكتب بماء الذهب، قال: " ليس شئ انفع للعبد في معاشه ومعاده واقرب الى نجاته:
من تدبر القرآن وإطالة التأمّل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته " [مدارج السالكين451/1].
وصدق –رحمه الله- فإن التدبر في كتابِ الله مفتاح كلِ خير، ومغلاق لكل شر.
• قال السعدي –رحمه الله-: تدبُّر كتاب
الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير ويستخرج منه جميع العلوم،وبه يزداد
الإيمان في القلب وترسخ شجرته.
*فإنه يعرِف بالرب المعبود، وماله من صفات
الكمال وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرّف الطريق الموصله إليه وصفه اهلها، ومالهم
عند القدوم عليه، ويعرّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصله الى العذاب،
وصفه اهلها، ومالهم عند وجود أسباب العقاب.
•وكلما زاد العبد تأملاً فيه ازداد علماً
وعملاً وبصيرةً" [تفسير السعدي 189/1-190].
كيفية التدبر ووسائله.
لقد حثنا الله على تدبر كتابه، وتأمل ما
فيه من الآيات والحجج، والحقائق والعلوم، فقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟!
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِند
ِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً
كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]،
وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟! (24)} [سورة محمد 47/24]، إن التدبر في القرآن يكون
في التأمل بمعانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك.
وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً
عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [سورة يوسف 12/2]، فالمقصود من جعله عربيًا
بينًا ليحصل لنا العقل والاهتداء بفهمه وتدبره، ومن لم يفهم لم يتدبر، قال الحسن البصري:
"ما أنزل الله من آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت، وماذا عُني بها".
ومن أهم الوسائل التي تعين على التدبر:
1- تفريغ القلب من الانشغال بغير الله،
والتفكر في غير كتابه، فاقرأ القرآن وقلبك فارغ من كل شيء إلا من الله، ومحبته، والرغبة
في فهم كلامه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [سورة ق 50/37].
2- الترتيل عند قراءة القرآن، وتحسين الصوت
به، وتحزينه، فإنه معين على التدبر والتأمل، ولهذا يجد الإنسان من نفسه حب سماع القرآن
حين يقرأ به القارئ الماهر، ذو الصوت الحسن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف
مرة يستمع لقراءة أبي موسى، وقال إنك قد أعطيت مزمارًا من مزامير آل دواد.
ومعرفة التجويد وضبط قراءة القرآن على شيخ
متقن، من أهم الأمور التي تعين على الترتيل؛ لأن التجويد هو إعطاء الحروف حقها ومستحقها،
وإنما يكون ذلك بتعلم كيفية القراءة الصحيحة.
3- استشعار عظمة الله، وأنه يكلمك بهذا
القرآن، حتى كأنك تسمعه منه الآن، قال سلْم الخواص: "قلت لنفسي: اقرئي القرآن
كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به؛ فجاءت الحلاوة"(10). أي أنه لما استشعر هذا
المعنى، وحمل نفسه على التفكر بهذا الفكر أحس بحلاوة القرآن، ولهذا روي عن علي أنه
قال: "إذا أردتُ أن يكلمني الله قرأت القرآن، وإذا أردت أن أكلم الله قمت إلى
الصلاة".
4- محاولة فهم معاني القرآن، بالرجوع إلى
التفاسير التي تهتم ببيان المعنى، دون دخول في دقائق اللغة والإعراب، أو المسائل الفقهية،
ومن أحسن هذه التفاسير تفسير ابن كثير، وتفسير ابن سعدي، وتفسير سيد قطب، وإن كان فيه
بعض الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها المسلم، لكنه جيد من حيث بيان المعنى، فهو يذكر
أمورًا جليلة جملية.
أما إن كان الإنسان لديه همة وحرص فإنه
يستطيع أن يراجع كتب التفسير الأخرى التي تفيض في بيان المعاني، وتذكر كثيرًا من الفوائد
الجمة.
5- ربط القرآن بواقعك الذي تعيش فيه، وذلك
بالنظر في المواعظ التي يذكرها، والقصص التي يحكيها، وكيف أن الله أهلك أممًا كثيرة
لما كذبوا وأعرضوا، وأن هذا المصير ينتظر كل من أعرض عن الله، وكفر برسله، مهما كانوا
في قوة وعزة.
وأيضًا: بالعمل بالأحكام التي فيه، فمثلاً
إذا قرأت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)} [سورة الإسراء
17/36]، فإنك تحمل نفسك على عدم الكلام إلا في شيء تعلمه، وتمتنع عن الكلام في أمر
لا تعلمه.
وإذا قرأت قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ
مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [سورة ق 50/18]، انتهيت عن الكلام
الباطل، وما لا نفع فيه؛ لأن كل كلمة تقولها فهي مرصودة.
وهكذا كان الصحابة يفعلون، فعن عطاء بن
السائب أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا
تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن
والعمل به، وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز تراقيهم(11).
6- معرفة بعض الأبحاث العلمية، التي تعتمد
على التجارب الحسية، والتي تسمى بالحقائق العلمية؛ ففيها فوائد جمة، وزيادة فهم لمعنى
الآية، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
(53)} [سورة فصلت 41/53].
0 التعليقات:
إرسال تعليق